#نادر_ماله

#نادر_ماله

"لم أعرف في حياتي من هو أوفى من الذكريات"

بهذه الجُملة استهل برنامجه اليومي. نادر، مُقدم البرنامج الإذاعي الإسبوعي المُباشر، ويُتابعه ملايين الشباب في أنحاء بلده، وتمتد شهرته خارجها بفعل سحر الإنترنت، الذي حوّل العالم لغرفة واحدة كبيرة.

كان صوته سعيد دائماً، تستطيع تخيُّل ابتسامته عندما يتحدث. صوته هادئ وبه لمسة طفولة شقية قرّبته من المستمعين بشكل كبير، وساعدته ليكون من أشهر الشخصيات بين الشباب، بالرغم من أن أحداً لم يقابله شخصياً، ولكن الجميع اعتبره صديق لهم، نظراً لقربه منهم، ومن أفكارهم.

لكن في تلك الليلة صوته كان يحمل من الهَمّ الكثير. لم تُخطئه أذن، فصوت نادر الليلة غير سعيد. بدأت التعليقات تظهر على صفحة البرنامج على الـFacebook، وTwitter، وظهر هاشتاج #نادرماله بعد ثواني من نطقه تلك الكلمات. تلك الثواني التي صمت خلالها نادر، وكأنه مريض بالزهايمر فقد خيط أفكاره فجأة في هجمة من هجمات المرض اللعين. حتى أن ملايين من المستمعين على مستوى العالم تأكدوا من سلامة البث، ظنّاً منهم أن إنقطاع طارئ قد حدث، وهو ما يؤكد على أن حتماً هناك داعي للسؤال الذي طُرِح؛ #نادرماله؟

تنهّد نادر، فصمتت الملايين، ليسمعوا صوته الحزين مُجدداً "الذكريات.. هي الذكريات دي حاجة حلوة ولا حاجة وحشة؟ هو ده سؤال النهاردة. مستني مشاركتكم. واتصالاتكم على تليفون البرنامج".

كانت مُقدمته قصيرة للغاية، على غير عادته، فالمُعتاد منه أن يفتتح البرنامج بمقدمة تزيد عن الدقيقتان، ويستمر بعدها في طرح أسئلته الذكية، ليتفاعل الجمهور، ولكن الليلة #نادر_ماله؟

-ألو.. مين؟

أجاب نادر أول اتصال له، جاءه صوت رقيق من فتاة يحمل من القلق الكثير، وكأن قد تم تفويضها من الملايين لتطمئن عليه، فحملت قلقهم على قلقها.

-مالك يا نادر؟

ابتسم نادر ابتسامة سمعها الملايين وكأنها زفير أكثر منها ابتسامة، وقال بنفس صوته غير المُعتاد:

-انا كويس.. ازيك انتي؟ واسمك ايه؟

-لا انت مش كويس.. صوتك زعلان.

قال نادر وقد عَلت نبرة صوته قليلاً، وكان الغضب بادياً رغماً عنه، وهي سابقة لم تحدث من قبل:

-موضوع البرنامج عن الذكريات.. مش عن نادر.. تحبي تشاركي؟

-اااه.. لأ انا متصلة أشوف مالك.. صوتك زعـ...

قطع نادر الإتصال، وقال مُعتذراً:

-ده مش مكان الأسئلة الشخصية. من فضل اللي هيتصل، يخليه في موضوع البرنامج.

هنا تدخل المخرج، وقال لنادر في سمّاعته الخاصة:

-فاصل يا نادر.

فقال نادر تلقائياً:

-فاصل ونرجع. وأغلق رز البث أمامه.

-مالك يابني؟ قال المُخرج.

-والنبي يا سامر ما ناقصك، خلّي اليوم يعدّي على خير، بدل ما اقوم اروّح.

قال المُخرج بصوت مصدوم:

-خلاص خلاص، بس ياريت تخلي بالك إن ملايين بيسمعوك، مالهُمش ذنب في مودك ده. يلا ٥ ثواني على الهوا.

عاد نادر وقد لاحظ أن هاشتاج #نادر_ماله أصبح يملأ صفحات التواصل.

خرج صوت نادر متردداً في محاولة منه ليظبط نفسه بعد انفعاله على أول متصلات الليلة:

-الناس بتبعد وتسيب مكانها ذكريات كتير، ساعات البُعد بيكون بسبب الموت، وساعات بسبب ظروف خارجة عن إرادة طرف أو الطرفين، وساعات بيكون بسبب سوء تفاهم عبيط، المهم إن البُعد بيحصل، والذكريات مابترحمش. الذكريات دي اللي بنحاول احياناً نسترجعها عشان نفتكر بيها لحظات حلوة، هي هي نفس الذكريات اللي بتفكرنا دايماً إن كل ده مابقاش موجود.. شاركوني رأيكم.

-ألو.. مساء الخير يا نادر.. انا اسمي ميّ.. انا شايفة إن الذكريات بتكون الحاجة الوحيدة اللي بتفكرنا باحنا كنا مين امبارح.. يعني ماينفعش ننساها، لأن دي دروس بنستفيد منها لبُكرة.

تدخل نادر وقد ظهرت على صوته ملامح الاهتمام:

-بس يا ميّ ساعات بنفضل عايشين في الذكريات ومش بنقدر نتحرك ونتقبل فكرة إن اللي راح راح خلاص.

-هو ده الغلط.. لازم نعرف إن الدنيا مش بتُقف على حد، وإن بُكرة جاي جاي.

-صدقيني يا ميّ ساعات بتُقف.

قالها نادر بصوت هامس، وكأنه يحدث نفسه، حتى أن الكثير من مُستمعيه لم يسمعوا ما قاله. ثم أكمل:

-نسمع غنوة (متعقّد) من حماقي ونرجع.

وانطلق صوت محمد حماقي:

"انا متعقد على فكرة.. مابقتش بابُص لبكرة.. واتاريني عايش على ذكرى"

عاد نادر لجمهوره بصوت متأثراً، ليزيد حيرتهم وتساؤلاتهم وكلامهم على هتشتاج #نادر_ماله:

-في ناس من كتر ماهي مميزة، وبتأسرنا، مش بنقدر ننساهم ونرجع لحياتنا الطبيعية بعد غيابهم، حتى لو هما نسيونا وعايشين حياتهم من غيرنا عادي.. ناخد اتصال تاني.. ألو.

-ألو يا نادر.. معاك وليد.. شوف يا سيدي، الموضوع بسيط، لو حد سابك يبقى مش عارف قيمتك، والحل بسيط، اللي راحت تيجي غيرها والواحد مش بينسى حد إلا لما بيلاقي بديله.

-طب يا وليد وبالنسبة للبتاع ده اللي بيسموه حُب؟ ايه؟ ماسمعتش عنه؟

-ماهي لو بتحب بجد مش هتمشي وتسيبني.. ولو سابتني يبقى ماتستاهلش احبها.

-وانت تقدر تختار تنساها بالسهولة دي؟

-طالما هقنع نفسي انها ماتستاهلش حبي هقدر انساها.

قال نادر بهمسه الذي أصبح معتاد الليلة:

-يا بختك يا وليد. ثم أكمل:

-نسمع غنوة ونطلع فاصل ونرجع بعده نكمل كلامنا. ومتشكر يا جماعة على هاشتاج #نادر_ماله، انا كويس والله.

صوت منير:

"يا حبيبتي البُعد نار.. قلبي داب مالانتظار.. الشمس تطلع كل يوم.. وانتي غايبة ليل نهار..

انتي فين والحب فين.. قلبي دايب من سنين.. لسة بيدوّر عليكي.. نفسي اشوفك ثانيتين..

انتي مش زي الجميع.. بسمتك لون الربيع.. ضحكتك تحري في دمي.. تبعدي انا مش هبيع"

خَفت صوت منير في الخلفية مع عودة نادر قائلاً:

-وليد قالنا اللي ينساك انساه.. طب ولو بتحب بجد؟ هتقدر تنسى؟ ولو انت حاسس إنك غلطت في اللي بتحبه وهو مشي زعلان منك؟ هتقدر تسامح نفسك؟ مستني مشاركتم على صفحات البرنامج، وتليفوناتكم.

-ألو. جاءه صوت مبحوح يحمل الكثير من الرقة، والتردد مما يشير إلى أن صاحبته ترددت كثيراً قبل الاتصال، أو إنها خجولة جداً.

رد نادر وصوته يحمل الكثير من المفاجأة:

-ألو؟

-أيوة يا نادر.

-أيوة.

قالها نادر بلهفة لاحظها الجميع، تعجّب الجميع من عدم سؤال نادر للمُتصلة عن اسمها، وعدم تمكنه حتى من الرد سوى بكلمة واحدة، فبدأت التعليقات تظهر على مواقع التواصل متسائلة عن هوية المُتصلة.

"#نادر_ماله حد غيري حاسس إن المكالمة دي فيها حاجة مش عادية"

قالت المُتصلة بصوت ملأه التردد والخجل:

-لا يا نادر، مش سهل ننسى اللي بنحبهم زي ما وليد قال، الحُب مش اختيار.

تسارعت أنفاس نادر على غير العادة، وهو ما يؤكد أن تلك الليلة غير عادية على الإطلاق، وقال:

-بس البُعد اختيار.

-ساعات بيكون الاختيار الوحيد المُتاح قصاد الشخص عشان يحافظ على كرامته، اللي بيحب حد مش بيجرح كرامته بكلام سخيف.

عقد سامر مُخرج البرنامج حاجبيه وهو يستمع لتلك المكالمة غير المتوقعة. تسارعت التعليقات على مواقع التواصل، وأصبحت تزيد كل ثانية.

"#نادر_ماله حد فاهم حاجة يا جدعان؟"

"#نادر_ماله هو قافش على البت كده ليه الواد نادر ده؟"

"#نادر_ماله اقطع دراعي إن ما كانوا يعرفوا بعض وبيكملوا كلام على الهوا"

-مش يمكن مكانش قاصده؟ مش يمكن كلامه اتفهم غلط؟ مش يمكن خانه التعبير عن اللي جواه؟ نقوم ندبحه؟

-كلامه مكانش له غير معنى واحد. وبعدين مش أول مرة!!

عَلت نبرة صوت نادر كما عَلت نبرة صوت المُتصلة بشكل واضح، لتزداد حدة المكالمة، وتزداد التعليقات، والتساؤلات.

أجاب نادر:

-مهما كان اللي بيتقال وقت الخناق، ماينفعش نحاسب الشخص عليه، لأن وقتها كل حاجة بتكون مش مترتبة، والكلام بيتلخبط.

صمت لثواني، وتحركت يداه ليختار أغنية ويطلق صوتها في خلفية المكالمة، دون أن تغطي على صوته أو صوت المُتصلة، ليقول عمرو دياب بصوته الرائع:

"معقول حبيبي مشيت.. معقول فاكرني نسيت.. لو قلبي قال حاجة.. من جرحه قالهالك..

دانا لما كنت بقول.. بقصد كلامي يطول.. يمكن تقول حاجة.. اسمعها اصفالك"

-مش يمكن لما بتزعلى منه بيتوتر ويطلع منه كلام مش من جواه؟

سمعت المُتصلة صوت الأغنية، وخرج صوتها في الرد تبدو عليه بوضوح محاولات التماسُك:

-وهو انا يا نادر مش بني آدمة وبحس وليا مشاعر وبتوتر برضه؟ ولا هو بس؟

-بس انتي اللي اختارتي تبعدي مش هوّ.

قالت بصوت مرتفع دون وعي:

-بس هوّ اللي غلط وانا عمري ما حسيت بالإهانة للدرجة دي؟

-مكانش قصدي يا ملك والله العظيم.

مواقع التواصل:

"#نادر_ماله نعم؟؟!!!!!!!"

"#نادر_ماله ده يعرفها يا جدعان"

"#نادر_ماله هو انا بس اللي سمعته بيقول اسمها؟"

-ألو؟؟ ملك!!

قطعت ملك المُكالمة، فخرج نادر لفاصل دون حتى الإعلان عنه، تحدث سامر بخفوت لنادر وقال:

-نادر.. هتقدر تكمّل الحلقة؟

لم يُجيب نادر، بقى في مكانه واضعاً يداه على وجهه دون حركة، وصوت عمرو دياب لايزال يملأ أفكاره:

"لا لا.. لا وألف لا.. دانا قلبي بعد غيابك تاه.. لو بالكلام ننسى الألام.. ده مكانش قال ولا عاشق اه"

صمت سامر لدقيقة، ثم عاد وقال:

-نادر.. نادر.. افتح عينك وشوف صفحة البرنامج قصادك.

فتح نادر عينه بفضول نجح في انتزاعه من قوقعته، ونظر للآيباد أمامه لتظهر أمامه التعليقات كلها في اتجاه واحد:

"#اتصلبيهايانادر و #ردييا_ملك"

"#اتصلبيهايا_نادر اللي بيحب حد مش بيسيبه يضيع من أيده"

"#رديياملك يا ملك اسمعي مني، نادر باين عليه بيحبك اوي، خسارة حب زي ده يضيع عشان كلام اتقال في لحظة خناق"

"#اتصلبيهايا_نادر وهترد عليك"

"#رديياملك حرام عليكي ده الواد زي العسل وبيموت فيكي"

تسارعت أنفاس نادر، وكأن تعليقات الجمهور قد شحنت عزيمته، فقتح المايكروفون بسرعة وكأن يحاول أو يمنع نفسه من التراجع عن قرار اتخذه، وقال بصوت هادئ يحمل الكثير من الحُب:

-انا لو متأكد من حاجة واحدة بس في الدنيا حالاً، هتبقى إنك سامعاني يا ملك.

اتسعت عينا سامر المُخرج، وحبست الملايين أنفاسها عندما أدركوا ما يحدث في تلك اللحظة، فنادر يخاطب حبيبته على الهواء. يسمع رسالته ملايين المتابعين على مستوى العالم، ولكنه لا يهتم سوى بأن تصل كلماته لشخص واحد فقط بينهم، حبيبته التي لم يعشق في حياته مثلما عشقها، حبيبته التي غابت عنه منذ خمسة أيام، لم ينام فيها سوى سويعات قليلة من التعب، ها هو يفتح قلبه الآن أمام العالم أملاً في أن تصل كلماته لقلب حبيبته وتقبل أن تُعطيه فُرصة أخيرة.

تنهّد نادر دون افتعال، واكمل:

-انا غلطت يا ملك وانا آسف. حتى لو مش قصدي اللي فهمتيه، لكن طالما وصلك إحساس وحش من كلامي يبقى أنا غلطان، وابقى قصّرت في إني أعرّفك مقدار غلاوتك وقيمتك في عنيا. انا معترف إني غلطت. واستحق تزعلي. بس انا مش قادر ابقى من غيرك يا ملك. صدقيني مش قادر. انا مش طالب منك غير فرصة أخيرة، أثبتلك فيها إني جدير بيكي، وإني استحق تكوني معايا. بعترف إن اللي ربنا يديله نعمة زيك، المفروض يحافظ عليها ويشيلها في عنيه. وانا غلطت، بس انتي عارفة انا بحبك اد ايه. وعارفة إني مكانش قصدي. وعارفة إنك مش زي أي حد في الدنيا في نظري ومش هتبقي.

ما زالت مواقع التواصل تشارك بقوة:

"#رديياملك والله انا عنيا دمّعت من كلامه حرام عليكي بقى"

"#رديياملك الواد ده مايتسابش يا هبلة"

-انا بحاول اكلمك بقالي خمس أيام، ومش بترُدي. انا اهو قصاد الدنيا كلها بطلب منك فرصة أخيرة، وبشهّد على نفسي كل الناس؛ أوعدك هشيلك في عيني. انا هتصل بيكي حالاً يا ملك، ولو ماردتيش، مش هضايقك تاني بعد النهاردة.

حبست الملايين أنفاسها. طلب نادر رقم ملك بأصابع مرتعشة، حتى إنه أخطاء في الرقم وصححه، ثم طلب الرقم وانتظر.

"#رديياملك ابوس رجلك ماتنكديش ع الواد"

"#ردي_يا ملك بقى"

صوت جرس الهاتف...

"#رديياملك والله حرام، دانا لو مكانك كنت نزلت روحتله الاستديو"

"#رديياملك يخربيت كده.. اعصابي تعبت"

صوت جرس الهاتف...

"#رديياملك شكلها مش هترد 😔"

"#رديياملك حد يلايمني على البت دي وانا ارميها من البلكونة"

أغمض نادر عيناه وأحنى رأسه في علامة واضحة على فُقدان الأمل، ويستمر صوت جرس الهاتف...

صوت جرس الهاتف...

-أ.. أ.. أيوة يا نادر...

"#رديياملك هييييييييييييييييييييييه 😍"

قالت ملك بصوت مبحوح كمن تبكي:

-ممكن تقفل الهواء عشان مش هنتكلم قصاد الناس كده بقى يا عم الغلس؟؟

وردّت مواقع التواصل:

#ماتقفلشالهواءيا_نادر

---

#قصةقصيرة
بقلم؛ #معتزشرباش
#اقتباس من #كتاب؛ #قصصوخواطرابتسمي