إن كنت تريد قراءة مقالي ظنا أنه نوع من "التنمية البشرية وتطوير الذات"، فدعك من المقال الآن، واطرحه جانبًا، فهو ليس لك. أما إذا كنت تريد رأيي فيما يسمونه بـ"السعادة"، فالمقال لك. ولكن، عليك بالصبر والتريث قبل الحُكم، وأعدُكَ بأني لن أُطيل عليك.
وقبل أن نبدأ علينا أن نسأل.. ما السعادة؟
هل تملك الجواب، خمن قليلًا، وأيا كانت الإجابة، فبالتأكيد لا يوجد اتفاق بينكم -أيها القُراء- على مفهوم السعادة.
مُختلفٌ عليه:
منذ فجر الحضارة، اختلف الفلاسفة حول مفهومٍ للسعادة، وحول موضعها في حياة الفرد، فقد رآها البعض وسيلة أو أفيونا، ورآها آخرون الغاية الأساسية التي يطمح إليها الفرد.
كان سقراط -أول من أرسى قواعد فلسفة الفضيلة والأخلاق- يرى أن السعادة غاية ينالها الإنسان، ويسعى للحصول عليها، عن طريق الفضيلة، وأساس الفضيلة يكمن في عامل الإدراك، والإدراك في المعرفة، فأنت حين تتعلم وتقرأ وتسأل، تسعى للمعرفة، فينمو لديك عامل الإدراك. وذلك الإدراك -على حسب زعم سقراط- هو الأساس والقاعدة الرئيسية لفضيلة الخير والشر، فتعرف الخير وتفعله، وتعرف الشر وتتجنبه، ولو فعلت الشر وأنت مُدرك أنه شر أفضل من فعلك الخير وأنت جاهل بأنه كذلك، فالإدراك في الحالة الأولى سيدفعك في المُستقبل لتغيير وتطوير ذاتك لاجتناب الشرور والسعي وراء الخير.
لكن سُقراط -مع كثرة كلامه- لم يُخبرنا كيف نصل إلى السعادة؟
ولو أخبرنا لاستراح الجميع، خاصة أنا وأنت، ولكن كعادة الفلاسفة، ما إن مات سقراط حتى انقسم تلامذته أنفسهم لـ3 مدارس، لكل مدرسة رأي في السعادة:
المدرسة الكلبية: رأت أن السعادة تكمن في سمو الإنسان بروحه عن كل الملذات الحسية المادية.
القورينائية: رأت أن السعادة بما تملكه من ملذات تُسخرها في الخير فقط.
الميغارية: رأت في السعادة كائنا نقيا، دون إخبارنا كيف ننالها!
ليت التعقيد ينتهي هنا فحسب، وكيف ينتهي ولم يبدأ بعد، فبذرة التعقيد نبتت في عقل عجوز يُدعى "أفلاطون"، ذلك الرجل الذي وفر كل طاقته في غرس بذور خرفة في عقول العوام؛ جعل السعادة غاية، ولم يكتفِ، بل وجعلها محضَ خيالٍ إن أردتها في الدنيا، فصارت غاية صعبة المنال، عليك بالبحث عنها، ولن تنالها في الأخير، إلا من خلال جمهوريته، ومدينته الفاضلة الخيالية، وعندها ستتحقق السعادة.. متى؟
مع بداية جديدة، في حياة وعالم آخرين. إذن عليك تأجيل السعادة لبداية جديدة، فانتظر واصبر!
مَن أنا لأنتقد أفلاطون هذا؟ يكفيه ما ناله من "أبيقور" الإغريقي وتلامذته مرورًا بالرواقيين فانتهاءً بنيتشه في القرن الـ19 الميلادي.
وعلى ذكر الرواقيين، تعالَ أُخبرك كيف رأى هؤلاء العظماء السعادة. إذا نظرت لموروث فلاسفتهم مثل: "زينون، وسينيكا، وايبكتيتوس" لن تجد للسعادة مكانًا عندهم، فلا وجود لها، وبالتالي ليست غاية على الإنسان أن يطمح إليها، فالسعادة الحقيقية تكمن في "عدم البحث عن السعادة"، فلا تهدر وقتك بالبحث عن خيالات أفلاطونية مؤجلة لبداية ما، بل السعادة عندهم هي ما تملكه في تلك اللحظة، أيًا كان ما تملكه؛ مال، صحة، جمال، زوجة صالحة، نفسك الحرة. ولو لم تملك أيًّا من ذلك، فعليك بالبحث عن الجيد والاكتفاء به وتغذيته. قد ترى أن كلامهم يُشبه "الرضا" عند المتدينين؟
نعم، أظنُ ذلك. تأمَّلْ عبارات سينيكا هذه ثم فكر قليلًا قبل أن تُكمل القراءة:
السعادة الحقيقية هي عيش اللحظة، بلا قلق حول المُستقبل، السعادة الحقيقية هي أن لا نتشبث بالآمال والمخاوف، بل أن نكتفي بما لدينا، السعادة الحقيقية هي أن لا نرغب في شيء
ماذا أيضًا؟
أظن أن "كيركيغارد" -فيلسوف دانماركي ويُعرف بأبي الوجودية- كان أكثر الفلاسفة بحثًا عن السعادة، لكنه لم يجدها هو أيضًا، فحين قسّم الحياة لدوائر ثلاث: (دائرة الجمال، الأخلاق، الدين)، كان يود أن يُبرهن أن السعادة موجودة في الدوائر الثلاث، ولكن بأشكل مختلفة.
فدائرة الجمال -الدائرة الحسية- وهي الدائرة الصغرى، تقتصر السعادة فيها على المادة، مثل التسوق والطعام والشراب والاكتناز، سعادة سببية زائلة بها خواء روحي. أما الدائرة الوسطى، حيث الأخلاق، فتأتي السعادة من فعل الخير، والسمو بالذات عن المادة، وإيجاد السعادة في تخفيف معاناة الآخرين. والدائرة الكُبرى والأخيرة، الدائرة الدينية، فتحتاج إلى قفزة تكونُ من خلالها إنسانًا ربانيًا، مثل إبراهيم -عليه السلام- والذي رأى السعادة في طاعة ربه طاعة تامة جعلته على وشك قتل ابنه نزولًا على أمر الإله!
أظن أن كلمات الفلسفة تلك قد تُعجبك وتُحيرك في آن واحد، وهو المطلوب، فقديمًا كان إخوان الصفا يُصنفون السعادة في صورتين: دنيوية، وأبدية. وكلتا الصورتين تتعلقان بالبقاء، فالأولى بقاء الصحة مع عمر طويل، فلو زالت الصحة، لا فائدة للعمر المديد. أما النوع الثاني، فالبقاء في جنات النعيم بالآخرة.
المصدر
Downvoting a post can decrease pending rewards and make it less visible. Common reasons:
Submit