جلال الدّين سماعن
يقول المتحدّث، بأنه كان، ذات سبت، شبه تائه في شوارع برشلونة يبحث عن مكان إقامته. فكّر في أن تيهه هذا فرصة مواتية قد تجعله "يخدم شوية مستقبله العاطفي ووثائقه" لو أنه يلتقي بإحداهن، يطلب منها أن ترشده السبيل وربما سترأف لحاله وترافقه إلى "مبتغاه".
سيغتنم الفرصة لتبادل أطراف الحديث معها.. ثم حين سيصلان إلى الفندق سيطلب منها – كما في الأفلام – أن تصعد من أجل "كأس أخيرة".. لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. ليس بسبب أنفه الكبير، بل لأن الشوارع كانت شبه خالية. لقد نزل صاحبنا في حيّ سكني يخرج أهله صباحًا إلى العمل ويعودون مساءً منهكين ليمكثوا أمام شاشات التلفزيون أو يخلدوا للنّوم مباشرة.
واصل هذا الباحث عن فندقه/مبتغاه سيره ثم قرع سمعه صرخة كان قد تعوّد أن يسمعها تنبعث من "القهوة نعبدالله"، مقهى حيّه، المتواضع، في بلدية من بلديات الجزائر العميقة/العقيمة. تبسّم بينه وبين نفسه وقال: "حتى هنا!". ثم داهمه شيء من الفضول في أن يبحث عن مصدر هذه الصرخة/الفرحة ويكتشف كيف يُتابع أهل برشلونة مباريات فريقهم.
ثم انتابته خيبة كبيرة: لقد قدِم إلى هذه المدينة لمشاهدة مباراة الدوري لفريقه المفضّل لكن يبدو بأنه أخطأ في تحديد اليوم الذي تُجرى فيه المواجهة. هل يكون قد قطع كل هذه المسافة من أجل أن يشاهد المباراة في مقهى كما تعوّد أن يفعل في قريته؟
على بعد أمتار بدا له مقهى على شماله. قطع الطّريق ولم يبال بأنه فعل ذلك في غير مكان ممرّ الراجلين. دلف إلى المقهى "PEÑA JUANITO" كالمجنون ولم يصدّق بأنه لن يحقق حلما لطالما راوده منذ سنوات طويلة. لم يصدق أيضا حين رأى على التلفاز فريقين غير فريقه المحبوب، البارصا. كانت المباراة بين سيلتا فيغو وريال مدريد، ألد أعدائهم. ثم حين ركّز مع النتيجة تبيّن له أن هذه الأخيرة هي من سجل. "أيعقل أن يكون هؤلاء الذين يسكنون في قلب برشلونة مناصرين لفريق هو ألد أعداء فريق المدينة؟"، قالها بينه وبين نفسه.
اتجه إذّاك إلى النّادل وطلب قارورة كوكاكولا. جلس في أول مكان فارغ لمحه وراح يتابع المباراة. ثم لا يدري كيف لفت انتباهه صورة كبيرة على الحائط لفريق.. ريال مدريد! "أيعقل؟؟" فكّر في أن يسأل شيخًا كبيرًا كان جالسا أمامه ولم ينقطع عن ترديد كلمة "La puta". عدل عن الأمر بسبب إسبانيته الركيكة ولخوفه من أن يكون هذا الجاثم قربه جاهلاً بالإنجليزية أو الفرنسية. اكتفى بطلنا بإخراج قاموسه ليبحث عن معنى الكلمة التي رافقت مشاهدته للشوط الأول ليكتشف بأنها مرادف لكلمة "يا قـ...رنون" التي تملأ مقاهي وملاعب بلده في كل مباراة. ثم أجال بنظره في أرجاء المقهى: لقد كان ممتلئا عن آخره بصور وأشياء مدريدية ولاشيء متعلّق بنادي المدينة!
مع صافرة نهاية الشوط الأول، تقدّم من النادل وطلب منه بإسبانية تخللتها بعض الدودانات في ما إذا كان بإمكانه أن يأخذ بعض الصّور وقد بيّت نية أن ينشرها على صفحته على الفايسبوك من أجل أبناء بلده وخاصة طائفة "الشعب أغيول" منها عساهم يفهموا بأنهم تافهون تفاهة الحرب التي تحدث بينهم في كل كلاسيكو.. في حين أن أوّل المعنيين به تجمعهم روح رياضية كبيرة. أجاب النادل صاحبنا بكاتالونية مشفوعة بالإشارات: "هل ترى تلك السلالم.. انزل وستكتشف شيئًا جميلا".
وكذلك فعل.
كانت دهشته عظيمة حين وجد نفسه وسط صالة/متحف مليء عن آخره بصور وأعلام وكؤوس مدريدية. تقدّم إليه أحدهم حين تيّقن بأنه سائح أجنبي وراح يشرح له بأن المقهى يحمل اسم "خوانيتو" وبأنه حمل قميص مدريد لعشر سنوات كاملة. التقط الصّور المرفقة مع هذا النص ثم جلس يتابع الشوط الثاني وعينه على المناصرين أكثر من شاشة التلفزيون الكبيرة على الحائط. فاز الفريق الملكي، احتضن المناصرون بعضهم البعض وخرجوا عائدين إلى بيوتهم.
حين خرج السائح الجزائري من المقهى ومشى قليلا، دخل إلى متجر للمواد الغذائية. يشتغل فيه شاب أنيق على ذراعيه وشوم كثيرة. لم يمنع صاحبنا سؤال نفسه (again) أيّ وشم كان سيختاره لو لم يكن هذا الأخير محرّما في دينه. لم يمنع نفسه أيضا من أن يسأل البائع عن المقهى المدريدية غير البعيدة عن محله. أجابه بأن الأمر عاديّ جدا وبأنها مجرد كرة قدم. أما المتعصبون من أنصار كلا الفريقين فلا تمثل إلا نفسها أو هي محرّضة من أجل إضافة حماس زائد وأدرينالين المتابعة كي يبقى أكبر كلاسيكو على الأرض.
في غمرة حديثه لم يتفطن المتحدث بأنه اقتنى شوكولاطة ممتلئة بمشروب روحي.. بعد لفّ ودوران عثر أخيرًا على فندقه والذي هو بالمناسبة عبارة عن غرفة في شقّة يقوم صاحبها بتأجيرها مقابل ثمن معقول جدًا.. صباح يوم الغد، الأحد، سينهض سائحنا على وقع تلاوات توراتية ويكتشف بأنه في ضيافة عائلة يهودية من أصول روسية. منحهم الشوكولاطة، قبّل ابنتهم ذات الأربع سنوات – لتعذّر تقبيل أمها – وانطلق إلى الكامب نو لمشاهدة مباراة فريقه المفضل.
وصل إلى هناك في الساعة التاسعة ونصف صباحات ربي في حين أن المباراة لن تنطلق إلا في الساعة السادسة مساءً.. اكتشف حينها بأن لا فرق بينه وبين "الشعب أغيول" الذي تعوّد أن يسبه حين يراه يملأ الملاعب الجزائرية في ساعات الصباح الباكرة من أجل مبارايات لن تنطلق إلا بعد العصر.. الوسع بلغة جدتي.. فلاّس لعفو نربي!!
Posted from my blog with SteemPress : https://www.nafhamag.com/2018/05/05/%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%84%d8%a7%d8%b3%d9%8a%d9%83%d9%88-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d8%ac%d8%a9-%d9%87%d9%86%d8%a7%d9%83-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%91%d9%85-%d8%ad%d8%aa%d9%89-%d9%84%d9%84%d8%b1%d9%91/