في الأدب الجزائري قديما وحديثا، لا يوجد أدب يُعنى بالبحر؛ لا توجد رواية جزائرية واحدة، تتحدث عن البحر، كحضارة، كصراع، كأفق، كانتماء؛ كما هو عليه الشأن في أوروبا وأمريكا، أي كأدب قائم بذاته. ثمة محاولات أدبية ولكنها ليست عميقة، فيما يبدو؛ ولعل مرزاق بقطاش (1945) الكاتب الجزائري الوحيد الذي يكاد يشكل الاستثناء في هذا المنحى، هل لأنه كان يسكن منذ صغره مدينة ساحلية محاذية للبحر؟ مع العلم أن معظم الكتّاب الجزائريين قادمون من عمق الجزائر، من قرى ومدن بعيدة عن البحر؛ وهو ما يذهب إليه الكاتب الجزائري محمد ساري، والذي يرى أن "أغلبية الكتاب الجزائريين من مدن بعيدة عن البحر، جبال القبائل لمولود فرعون، تلمسان لمحمد ديب، سطيف لكاتب ياسين، برج بوعريريج لعبد الحليم بن هدوقة، قسنطينة وسدراتة ومداوروش للطاهر وطار... أما مرزاق بقطاش فهو ابن القصبة والعاصمة، جيلالي خلاص ابن عين الدفلة، أي مدينة داخلية، لكنه كتب عن البحر، في "حمائم الشفق" و"طيور الجزيرة"، ويبدو أن كان متأثرا بقراءاته للرواية العالمية، أكثر من معرفته الحقيقية بالبحر...".
مرزاق بقطاش
هكذا كتب مرزاق بقطاش مجموعة من الأعمال تُعنى بالبحر، مثل المجموعة القصصية "جرائد البحر " وروايته "طيور في الظهيرة"، إضافة إلى عمله الروائي الأخير بعنوان : "المطر يكتب سيرته"، والذي فاز سنة 2017، بجائزة آسيا جبار للرواية في دورتها الثالثة، في فرع الرواية العربية.
الظاهرة الأدبية عينها، يمكن تعميمها على جميع البلدان العربية، ماعدا ربما الكاتب السوري الكبير حنا مينة (1924)؛ لعله الكاتب الوحيد الذي تناول البحر في أعماله الروائية، وهو ما يؤكده حنا مينة : "اكتشفت أن البحــر وعالمه مجهولان بالنسبة للقارئ العربـــي"، ويضيف صاحب رواية "الشراع والعاصفة": لم يكتب أحد من الكتّاب العرب عن البحر، لأنهم لا يعرفون البحر، وبالتالي لا نستطيع أن نطلب من الآخرين أن يكتبوا عن شيء لا يعرفونه..."
حنا مينة
"روائي البحر العربي" كما يطلق عليه بعض النقاد، يتحدّى من يدله على كاتب عربي واحد كتب نصا شعريا أو قصصيا في البحر وعن البحر، ثمة نصوص عن الصيّادين، عن الموانئ عن الشواطئ وعن أشياء أخرى، أما البحر كبحر، كلجة كمحيطات، كحضارة، كصراع، كموقف، يعتقد الكاتب السوري الكبير جازمًا أن تناوله كثيمة أساسية في الأعمال الأدبية نادر جدا، أن لم نقل أنه منعدم تماما، سواء على مستوى الشعر أو النصوص السردية في الأدب العربي المعاصر.
أما الأدب العربي القديم، لا يختلف اثنان ولسياقات تاريخية ذات العلاقة بالامتداد الجغرافي، أن الأمر في الواقع تحصيل حاصل؛ هكذا اتخذت ثيمات الأدب القديم من الصحراء وعوالمها الظاهرة والخفية، فضاءها الوحيد في الكتابة على مر العصور، باعتبار أن البحر كان يمثل الوجه الآخر المناقض انثروبولوجيا لتصوّرات الحياة عند العرب، ضمن رقعة جغرافية محاصرة بتراث لم يترك للبحر مجالا للبوح.
من هنا يأتي تفرّد صاحب "نهاية رجل شجاع"، في تناول البحر كمصدر إلهام، لدرجة وصفه بأن معظم أعماله مبللة - كما قال - بمياه موج البحر الصاخب، حتى وان كان يعترف ضمنا، بأنه ورغم كل الأعمال التي خصّصها لعوالم البحر في صراع البقاء، والتي شملت معظم رواياته ابتداء من "المصابيح الزرق"، ومرورا بـ"الياطر" ، "حكاية بحّار"، "المرفأ البعيد"، "الشراع والعاصفة"، "بقايا صوّر"، "البحر والسفينة"، "المستنقع"... لم تكن سوى مقدمة لما أسماه: كتاب البحر.
ولعل البحر كثيمة أساسية جسّدها صراع البقاء مع الطبيعة ومع الحياة، البحر فيها هو الباحث عن الذات، هو المنقذ وهو النهاية التراجيدية لصراع أزلي بين الإنسان والطبيعة، تم تناولها فنيا في عملين كبيرين، حققا لصاحبيهما شهرة عالمية واسعة؛ هكذا تحوّل سؤال البحر فيها إلى أفكار ورؤى وتطلعات، أوحت لكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية مصادر جديرة بالاقتباس والاستلهام، ارتقى بفضلهما الكاتبان الأمريكيان إلى مصاف كبار الكتّاب في العالم، انتشارا وقيمة أدبية، ويتعلق الأمربقصّة ارنست همنغواي الشهيرة "الشيخ والبحر"، ورواية "موبي ديك" لهيرمان ميلفيل.
غلاف رواية الشيخ والبحر
تدور أحداث رواية "الشيخ والبحر" والتي افتك ارنست همنغواي بفضلها جائزة نوبل في الأدب سنة 1954، حول صراع مرير بين شيخ مسنّ يدعى "سنتياغو" وسمك القرش، وقد جسدت من خلال هذا الصراع المرير، قيّما إنسانية، تتمثل أساسا في عدم الاستسلام والخضوع للأمر الواقع، وجوهرها العزيمة والإصرار، سبيلا للتصدي للخطر، أو تحقيق الهدف المبتغى؛ وذلك رغم متاعب السن؛ أما رواية "موبي ديك" أو الحوت الأبيض بالانجليزية للكاتب الامريكي هيرمان ميلفيل، بطلها بحار أمريكي، يتوجه مع مجموعة من البحارة في رحلة صيد على متن سفينة، مزوّدة ببعض القوارب الصغيرة، لتعقب حوت ابيض أطلق عليه اسم موبي ديك.
انتشار الأعمال الملمة بعوالم البحر في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، دفع بالنقاد إلى إطلاق تسمية أدب البحر على هذين العملين الشهيرين وأعمال أخرى، تغوص جميعها في معاني البحر، في فك ألغازه وفي محاولة فهم ثنائيات التناقض بين انسجامه وصراعه، بين صخبه وصمته، وفي كشف عمق أسراره.
غلاف رواية موبي ديك
هكذا، البحر كثقافة وامتداد حضاري، كصراع دائم بين الإنسان والطبيعة، لم يصل إلى الأدب العربي بهذا الطرح ، باعتبار أن البحر في ذاكرتنا الجمعوية يقترن بالراحة والعطلة والصيف والاستجمام، بعيدا عن كل معاني الحياة الحقيقية التي جسدها البحر عبر التاريخ وتعاقب الحضارات.
Posted from my blog with SteemPress : https://www.nafhamag.com/2018/07/09/%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%84%d8%a7-%d9%8a%d9%88%d8%ac%d8%af-%d8%a3%d8%af%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%ad%d9%80%d9%80%d8%b1-%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%86%d8%a7-%d8%9f/